الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة طه مكية في قول الجميع نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب وكانوا يقرؤون {طه{ فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ {طه{ وذكره ابن إسحاق مطولا فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله فلقيه نعيم بن عبدالله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ !أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال وأي أهل ببتي؟ قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما قال فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها {طه{ يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أوفي بعض لبيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وأمنا بالله ورسول فاصنع ما بدا لك ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لها لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها {طه{ فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول {طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى} قوله تعالى{طه{ اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه هو من الأسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي وقيل إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه وأنشد الطبري في ذلك فقال: ويروى مزايلا وقال عبدالله بن عمر يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب هو بلغة طيء وأنشد ليزيد بن المهلهل: وكذلك قال الحسن معنى {طه{ يا رجل وقال عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد وحكى الطبري أنه بالنبطية يا رجل وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال: وقال عكرمة أيضا هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمينية في عك وطيء وعكل أيضا وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى به كما سماه محمدا ثم بنى عليه هذا الأمر والهاء للسكت وقال مجاهد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية وقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام وقال مقاتل والضحاك فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قام وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى {طه{ يقول: رجل {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{ أي لتتعب؛ على ما يأتي وعلى هذا القول إن {طه{ (طاها) أي طأ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طأ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة وقرأت طائفة {طه{ وأصله طأ بمعنى طأ الأرض فحذفت الهمزة أدخلت هاء السكت وقال زر بن حبيش قرأ رجل على عبدالله بن مسعود {طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{ فقال له عبدالله {طه{ فقال: يا أبا عبدالرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجله أو بقدميه فقال {طه{ كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد الباقون بالتفخيم قال الثعلبي وهي كلها لغات صحيحة النحاس لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين إحداهما أنه ليس ههنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. قوله تعالى {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{ وقرئ {ما نُزِّل عليك القرآن لتشقى{ قال النحاس بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود وقال أبو جعفر وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء والشقاء يمد ويقصر وهو من ذوات الواو وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب قال الشاعر: فمعنى لتشقى {لتتعب{ بفرط تأسفك وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى قوله تعالى{إلا تذكرة لمن يخشى{ قال أبو إسحاق الزجاج هو بدل من {تشقى{ أي ما أنزلناه إلا تذكرة النحاس وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. {تنزيلا{ مصدر أي نزلناه تنزيلا وقيل بدل من قوله {تذكرة{ وقرأ أبو حيوة الشامي {تنزيل{ بالرفع على معنى هذا تنزيل. {ممن خلق الأرض والسماوات العلا{ أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقول كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله. {الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} قوله تعالى{الرحمن على العرش استوى{ ويجوز النصب على المدح قال أبو إسحاق الخفض على البدل وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر {له ما في السماوات وما في الأرض{ فلا يوقف على {استوى{ وعلى البدل من المضمر في {خلق{ فجوز الوقف على {استوى{ وكذلك إذا خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على {العلا{ وقد تقدم القول في معنى الاستواء في {الأعراف{ والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما كون استواء المخلوقين وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة. قوله تعالى{له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى{ يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة ابن عباس الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها قوله تعالى{وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى{ قال ابن عباس السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسربه غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا {السر{ ما أسر ابن آدم في نفسه {وأخفى{ ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره {السر{ ما أضمره في نفسه {وأخفى{ منه ما لم يكن ولا أضمره أحد وقال ابن زيد {السر{ من الخلائق {وأخفى{ منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي {أخفى{ ما ليس في سرا لإنسان في نفسه كما قال ابن عباس. {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى{ {الله{ رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ أو على البدل من الضمير في {يعلم{ وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى{ وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى{ وقد تقدم. {وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} قوله تعالى{وهل أتاك حديث موسى{ قال أهل المعاني هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه؛ أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك؛ قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. {إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى{ قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضي الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا، يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة - لما سبق في علم الله تعالى - وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله بغنمه، وولد له في الطريق في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق {فقال لأهله امكثوا{ أي أقيموا بمكانكم {إني آنست نارا{ أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء؛ وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار - فيما روي - وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا، وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة {لأهله امكثوا{ بضم الهاء، وكذا في {القصص{. قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت به يا رجل؛ فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال{امكثوا{ ولم يقل أقيموا، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك {وآنست{ أبصرت، قاله ابن العربي. ومنه قوله {فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} قوله تعالى{فلما أتاها{ يعني النار {نودي يا موسى{ أي من الشجرة كما في سورة {القصص{ أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي {يا موسى إني أنا ربك{. قوله تعالى {فاخلع نعليك{ في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الأحوص: زار عبدالله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى؛ فقال أبو موسى لعبدالله: تقدم. فقال عبدالله: تقدم أنت دارك. فتقدم وخلع نعليه؛ فقال عبدالله: أبا الوادي المقدس أنت؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين؟ قال نعم. فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك؛ فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول، فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل؛ لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة {النحل{ ومضى في سورة {براءة{ القول في إزالة النجاسة والحمد لله. قوله تعالى{إنك بالوادي المقدس طوى{ المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة؛ سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض؛ كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين؛ فقد شاركه في ذلك غيره. و(طوي) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك هو واد عميق مستدير مثل الطوي. وقرأ عكرمة {طوى{. الباقون {طوى{. قال الجوهري{طوى{ اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم{طوى{ مثل {طوى{ وهو الشيء المثني، وقالوا في قوله {المقدس طوى{: طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له {طوى{ لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي؛ فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: (إنك بالواد المقدس) الذي طويته طوى؛ أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين؛ فهو مصدر من طويته طوى أيضا. {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} قوله تعالى{وأنا اخترتك{ أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي {وأنا اخترتك{. وقرأ حمزة {وأنَّا اخترناك{. والمعنى واحد إلا أن {وأنا اخترتك{ ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام؛ لقوله عز وجل{يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك{ وعلى هذا النسق جرت المخاطبة؛ قاله النحاس. قوله تعالى{فاستمع لما يوحى{ فيه مسألة واحدة: قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه{استمع لما يوحى{ وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شمال، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا. قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال اختلف في تأويل قوله{لذكري{ فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى؛ أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه؛ وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمي الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال {أقم الصلاة لدلوك الشمس{ الآية وغيرها من الآي. أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص؛ وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبدالرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم؛ فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث؛ إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روي عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. قلت وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة؛ قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير؛ فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر؛ ولم يختلف المذهب أن الست كثير. وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة؛ فإن كان وراء الإمام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به، يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما قلت وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة؛ لما قلت: ذكر الكيا الطبري في {أحكام القرآن{ له أن من السلف من خالف {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} قوله تعالى{إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى{ آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أكاد أخفيها{ بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها. {لتجزى{ أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح - وحدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: أنه قرأ {أكاد أخفيها{ بضم الهمزة. قلت: وأما قراءة ابن جبير {أخفيها{ بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس: أراد لا نظهره؟ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون {أخفيها{ بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد: كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضا: أي أظهرهن. وروى{من سحاب مركب{ بدل {من عشي مجلب{. وقال أبو بكر الأنباري وتفسير للآية آخر{إن الساعة آتية أكاد{ انقطع الكلام على {أكاد{ وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء {أخفيها لتجزى كل نفس{ قال ضابئ البرجمي: أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن. قلت: هذا الذي أختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفي الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى {أخفيها{ عدل إلى هذا القول، وقال معناه كمعنى {أخفيها{. قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و{أخفيها{ قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، والمضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل {آتية{ على أتي بها؛ ثم قال{أخفيها{ على الابتداء. وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة. قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في {لتجزى{ متعلقة بـ {أخفيها{. وقال أبو عليك هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى {أخفيها{ أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الأخفية (2) أراد فما يتنفس. وقال آخر: معناه: وألا أنجح بالذي نلت؛ فأكاد توكيد للكلام. وقيل: المعنى {أكاد أخفيها{ أي أقارب ذلك؛ لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته معناه: أرادت وأردت. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي؛ وكذلك هو في مصحف أبي. وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهو محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شيء؛ قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر: فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي؛ أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي؛ ورواه طلحة بن عمر وعن عطاء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا. وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل. وقيل: تعلق {لتجزى{ بقوله تعالى: (وأقم الصلاة) فيكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أقم الصلاة لتذكرني (لتجزي كل نقس بما تسعى) أي بسعيها (إن الساعة آتية أكاد أخفيها). والله أعلم. وقيل: هي متعلقة بقوله: (آتية) أي إن الساعة آتية لتجزي. {فلا يصدنك عنها{ أي لا يصرفنك عن الإيمان بها والتصديق لها {من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى{ أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي. {وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} قوله تعالى{وما تلك بيمينك{ قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا؛ لأنه قال: (فاستمع لما يوحى) ولابد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في {ما{ في قوله (وما تلك) فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت بـ {ـيمينك{ أي ما التي بيمينك؟ وقال أيضا{تلك{ بمعنى هذه؛ ولو قال: ما ذلك لجاز؛ أي ما ذلك الشيء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي؛ ليثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرأ ابن أبي إسحاق {عصي{ على لغة هذيل؛ ومثله {يا بشرى{ و{محيي{ وقد تقدم. وقرأ الحسن {عصاي{ بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة في هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل؛ لأنه لما قال {وما تلك بيمينك يا موسى{ ذكر معاني أربعة وهي إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا؛ والتوكؤ؛ والهش، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك. قوله تعالى{أتوكأ عليها{ أي أتحامل عليها في المشي والوقوف؛ ومنه الاتكاء {وأهش بها{ {وأهش{ أيضا؛ ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي، أي أخبط بها الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز: يقال: هش على غنمه يهش الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي أي طرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرأ عكرمة {وأهس{ بالسين غير معجمة؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: معناهما مختلف؛ فالهش بالإعجام خبط الشجر؛ والهس بغير إعجام زجر الغنم؛ ذكره الماوردي؛ وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة{وأهس{ بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم. قوله تعالى{ولي فيها مآرب أخرى{ أي حوائج. واحدها مأربة ومأربة ومأربة. وقال{أخرى{ على صيغة الواحد؛ لأن مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع في توابع جمع ما لا يعقل الإفراد والكناية عنه بذلك؛ فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة؛ كقوله تعالى تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم. وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال؛ سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوة إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب؛ وتنوب عن الرمح في الطعان؛ وعن السيف عند منازلة الأقران؛ ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى. قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء؛ وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها؛ وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسم لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله؛ ثابت في الصحيح أيضا. وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم: قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكؤون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه ولكنني ألزمت نفسي حملها لأعلمها أن المقيم على سفر {قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى، لنريك من آياتنا الكبرى} قوله تعالى{قال ألقها يا موسى{ لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا {فألقاها{ موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة فـ قوله تعالى{فإذا هي حية تسعى{ النحاس: ويجوز {حية{ يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف {حيه{ بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه. وعن بعضهم: إنما خاف منه لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه {لا تخف{ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. {سنعيدها سيرتها الأولى{ سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل قوله تعالى{واضمم يدك إلى جناحك{ يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل ويجوز الضم على الإتباع ويد أصلها يدي على فعل؛ يدل على ذلك أيد وتصغيرها يدية. والجناح العضد؛ قاله مجاهد. وقال{إلى{ بمعنى تحت. قطرب{إلى جناحك{ إلى جيبك؛ ومنه قول الراجز: وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك. وقال مقاتل {إلى{ بمعنى مع أي مع جناحك. {تخرج بيضاء من غير سوء{ من غير برص نورا ساطعا، يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و{بيضاء{ نصب على الحال، ولا ينصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لأن الهاء تفارق الاسم. و{من غير سوء{ {من{ صلة {بيضاء{ كما تقول: ابيضت من غير سوء. {آية أخرى{ سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي البصر. و{آية{ منصوبة على البدل من بيضاء؛ قاله الأخفش. النحاس: وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو نؤتيك؛ لأنه لما قال{تخرج بيضاء من غير سوء{ دل على أنه قد آتاه آية أخرى. {لنريك من آياتنا الكبرى{ يريد العظمى. وكان حقه أن يقول الكبيرة وإنما قال {الكبرى{ لوفاق رؤوس الآي. وقيل: فيه إضمار؛ معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته. {اذهب إلى فرعون إنه طغى، قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا} قوله تعالى{اذهب إلى فرعون إنه طغى{ لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و{طغى{ معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. {قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي{ طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن؛ فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؛ فأتاه ملك من خزان الريح فقال يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك{رب اشرح لي صدري{ أي وسعه ونوره بالإيمان والنبوة. {ويسر لي أمري{ أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. {واحلل عقدة من لساني{ يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت الرتة وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة؛ فقيل: زالت بدليل قوله قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون{ولا يكاد يبين{ حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. {يفقهوا قولي{ أي يعملون ما أقوله لهم ويفهموه. والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وأفقهتك الشيء ثم خص به الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم؛ قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالأكيل للمؤاكل؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. وقيل: الأزر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر: وكان هارون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين وكان في جبهة هارون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم. {وأشركه في أمري{ أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه؛ فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة {أخي اشدد{ بوصل الألف {وأشركه{ بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبدالله بن أبي إسحاق {أشد{ بقطع الألف {وأشركه{ أي أنا يا رب {في أمري{. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله{أجعل لي وزيرا{ وهذه القراءة شاذة بعيدة؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة؛ فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من {أخي{ ابن كثير وأبو عمر. {كي نسبحك كثيرا{ قيل: معنى {نسبحك{ نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. {وكثيرا{ نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا {ونذكرك كثيرا{. {إنك كنت بنا بصيرا{ قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى؛ أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا كذلك يا رب. {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى، ولقد مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني} قوله تعالى{قال قد أوتيت سؤلك يا موسى{ لما سأله شرح الصدر، وتيسير الأمر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة؛ فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى{ولقد مننا عليك مرة أخرى{ أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء؛ وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله{ذ أوحينا إلى أمك ما يوحى{ قيل{أوحينا{ ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. {أن اقذفيه في التابوت{ قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. {فاقذفيه في اليم{ أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. {فاقذفيه{ قال الفراء{فاقذفيه في اليم{ أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي} قوله تعالى{إذ تمشي أختك{ العامل في {إذ تمشي{ {ألقيت{ أو {تصنع{. ويجوز أن يكون بدلا من {إذ أوحينا{ وأخته اسمها مريم {فتقول هل أدلكم على من يكفله{ وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا؛ فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها؛ قال ابن عباس: فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى{فرجعناك إلى أمك{ وفي مصحف أبي {فرددناك{ {كي تقر عينها ولا تحزن{ وروى عبدالحميد عن ابن عامر {كي تَقِر عينها{ بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في {مريم{. {ولا تحزن{ أي على فقدك. {وقتلت نفسا{ قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ؛ على ما يأتي. {فنجيناك من الغم{ أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. {وفتناك فتونا{ أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصنا إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في {النساء{. قوله تعالى{فلبثت سنين في أهل مدين{ يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله{ثم جئت على قدر يا موسى{ قال ابن عباس وقتادة وعبدالرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل{على قدر{ على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر: قوله تعالى{واصطنعتك لنفسي{ قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل{اصطنعتك{ خلقتك؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي. {اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} قوله تعالى{اذهب أنت وأخوك بآياتي{ قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. {ولا تنيا في ذكري{ قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة؛ وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر: والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس: ويقال: ونيت في الأمر أني ونى ونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة: وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود {ولا تهنا في ذكري{ وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي. قوله تعالى{اذهبا{ قال في أول الآية{اذهب أنت وأخوك بآياتي{ وقال هناك {اذهبا{ فقيل أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون. قوله تعالى{فقولا له قولا لينا{ دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال{فقولا له قولا لينا{ وقال واختلف الناس في معنى قوله (لينا) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه؛ يقال: لان الشيء يلين لينا؛ وشيء لين ولين مخفف منه؛ والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى قوله تعالى{لعله يتذكر أو يخشى{ معناه: على رجائكما وطمعكما؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر؛ قال كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم. قال الزجاج{لعل{ لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل {لعل{ ها هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هل يتذكر. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى؛ قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} قوله تعالى{قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى{ قال الضحاك{يفرط{ يعجل. قال: و{يطغى{ يعتدي. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر؛ قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط وقراءة الجمهور {يفرط{ بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط أمر أي بدر؛ ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه؛ قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن {يفرط{ بفتح الياء والراء؛ قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة {يفرط{ بضم الياء وكسر الراء؛ وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيننا؛ قال الراجز: {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبدالله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه - قد خاف من كان خيرا من عامر؛ موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له قلت ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة؛ وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. قوله تعالى{إنني معكما{ يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقول{أسمع وأرى{ عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين. {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى، إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} قوله تعالى{فأتياه فقولا إنا رسولا ربك{ في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. {فأرسل معنا بني إسرائيل{ أي خل عنهم. {ولا تعذبهم{ أي بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. {قد جئناك بآية من ربك{ قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها ولم يره العصا إلا يوم الزينة. {والسلام على من اتبع الهدى{ قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب{ يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. {على من كذب{ أنبياء الله {وتولى{ أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا. {قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قوله تعالى{قال فمن ربكما يا موسى{ ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب؛ لأن الله تعالى قال{أذهبا إلى فرعون{ وقال{اذهب أنت وأخوك{ وقال{فقولا له{ فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله{فمن ربكما{ أنه كان حاضرا مع موسى. {قال{ موسى{ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه{ أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا {وخلقه{ أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي. {ثم هدى{ قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة؛ ويجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر: يعني بالخلقة الصورة؛ وهو قول عطية ومقتل. وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة النوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه. قلت وهذا معنى قول ابن عباس. الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الذي أعطى كل شيء خلقه{ بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى. {قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} قوله تعالى{قال فما بال{ البال الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة. هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال{علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى{. قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه؛ فقال لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا أبو عبدالله البلوى فقال: فهذا يليق بأثواب ذا وهذا يليق بثوب الحصان وذكر الماوردي أن عبدالله بن سليمان حكى؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران؛ وأنشد: قوله تعالى{لا يضل ربي ولا ينسى{ اختلف في معناه على أقوال خمسة: الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله{في كتاب{. وكذا قال الزجاج، وأن معنى {لا يضل{ لا يهلك من قوله قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي. وقول خامس: إن {لا يضل ربي ولا ينس{ في موضع الصفة لـ {كتاب{ أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل؛ أي غير ذاهب عنه. {ولا ينسى{ أي غير ناس له فهما نعتان لـ {كتاب{. وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على {كتاب{. تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه {لا يضل{ بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ {لا يضل ربي{ أي لا يضيع؛ هذا مذهب العرب. {الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} قوله تعالى{الذي جعل لكم الأرض مهادا{ {الذي{ في موضع نعت {لربي{ أي لا يضل ربي الذي جعل ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو {الذي{. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الكوفيون {مهدا{ هنا وفي {الزخرف{ بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون {مهادا{ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى، وأشياء شتى، وتقول: جاؤوا أشتاتا؛ أي متفرقين؛ واحدهم شت؛ قاله الجوهري. قوله تعالى{كلوا وارعوا أنعامكم{ أمر إباحة. {وارعوا{ من رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها رعاية؛ أي أسامها وسحرها؛ لازم ومتعد. {إن في ذلك لآيات لأولي النهى{ أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك؛ لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله {فمن ربكما يا موسى{. وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله. قوله تعالى{منها خلقناكم{ يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض؛ قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب؛ على هذا يدل ظاهر القرآن. {ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى، قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى} قوله تعالى{ولقد أريناه آياتنا كلها{ أي المعجزات الدالة على نبوة موسى وقيل حجج الله الدالة على توحيده {فكذب وأبى{ أي لم يؤمن وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا نظيره {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى{ لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال: إنها سحر؛ والمعنى: جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والإيمان بك، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. {فلنأتينك بسحر مثله{ أي لنعارضنك بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. {فاجعل بيننا وبينك موعدا{ هو مصدر؛ أي وعدا. وقيل: الموعد اسم لمكان الوعد؛ كما قال تعالى وقال أبو عبيدة والقتبي: وسطا بين الفريقين؛ وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الأخفش{سوى{ إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت، تقول: مكان سوى وسوى وسواء؛ أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر: البيت. وقيل{مكانا سوى{ أي قصدا؛ وأنشد صاحب هذا القول: وتقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الأمر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجمع وهم أسواء؛ وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب {مكانا{ على المفعول الثاني لـ {جعل{. ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له؛ لأن الموعد قد وصف، والأسماء التي تعمل عمل الأفعال إذا وصفت أو صغرت لم يسغ أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني؛ لأن الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى {قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى، قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} قوله تعالى{قال موعدكم يوم الزينة{ واختلف في يوم الزينة، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه؛ قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب: يوم سوق كان لهم يتزينون فيها؛ وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز؛ ذكره الثعلبي. وقيل: يوم يكسر فيه الخليج؛ وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون؛ وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص {يوم الزينة{ بالنصب. ورويت عن أبي عمرو؛ أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. الباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. {وأن يحشر الناس ضحى{ أي وجمع الناس؛ فـ {أن{ في موضع رفع على قراءة {يوم{ بالرفع. وعطف {وأن يحشر{ يقوي قراءة الرفع؛ لأن {أن{ لا تكون ظرفا، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج؛ لأن من قال أتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس: وأولى هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحا مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة؛ قاله النحاس. وقال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحا وهي حين تشرق الشمس؛ مقصورة تؤنث وتذكر؛ فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة؛ ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر؛ وهو ظرف غير متمكن مثل سحر؛ تقول: لقيته ضحا؛ وضحا إذ أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وخص الضحا لأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وروي عن ابن مسعود والجحدري وغيرهما {وأن يحشر الناس ضحا{ على معنى وأن يحشر الله الناس ونحوه. وعن بعض القراء {وأن تحشر الناس{ والمعنى وأن تحشر أنت يا فرعون الناس وعن الجحدري أيضا {وأن نحشر{ بالنون وإنما واعدهم ذلك اليوم؛ ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وكبت الكافر، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، يكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر. قوله تعالى{فتولى فرعون فجمع كيده{ أي حيله وسحره؛ والمراد جمع السحرة. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أربعة عشرا ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل كانوا ثلثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف وكان رئيسهم أعمى. {ثم أتى{ أي أتى الميعاد. {قال لهم موسى{ أي قال لفرعون والسحرة {ويلكم{ دعاء عليهم بالويل. وهو بمعنى المصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج: هو منصوب بمعنى الزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. {وقد خاب من افترى{ أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. {فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى، قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى} قوله تعالى{فتنازعوا أمرهم بينهم{ أي تشاوروا؛ يريد السحرة. {وأسروا النجوى{ قال قتادة {قالوا{ إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر؛ وهذا الذي أسروه. وقيل الذي أسروا قولهم {إن هذان لساحران{ الآية قاله السدي ومقاتل. وقيل الذي أسروا قولهم: إن غلبنا اتبعناه؛ قال الكلبي؛ دليله من ظهر من عاقبة أمرهم. وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى قوله تعالى{إن هذان لساحران{ قرأ أبو عمرو {إن هذين لساحران{. ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه {إن هذان{ بتخفيف {إن{ { لساحران{ وابن كثير يشدد نون {هذان{. وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وقرأ المدنيون والكوفيون {إن هذان{ بتشديد {إن{ { لساحران{ فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ {إن هذان إلا ساحران{ وقال الكسائي في قراءة عبدالله{إن هذان ساحران{ بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبي {إن هذان إلا ساحران{ فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن اقرأ {إنَّ هذان { وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى {لكن الراسخون في العلم{ ثم قال{والمقيمين{ وفي {المائدة{ ويقولونك كسرت يداه وركبت علاه؛ يديه وعليه؛ قال شاعرهم: وقال آخر: أي عليهن وعليها. إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها أي إن أبا أبيها وغايتها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما خملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضي علمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: وأعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون {إن هذان{ جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى وقال عبدالله بن قيس الرقيات ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل{إن هذان ساحران{ بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلبك قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا اللام ينوي بها التقديم؛ كما قال: آخر: أي لخالي ولأم الحليس؛ وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني. قال أبو الفتح{هما{ المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد. القول الثالث قال الفراء أيضا: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت{الذي{ ثم زدت عليه نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك القول الرابع قاله بعض الكوفيين قال الألف في {هذان{ مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. القول الخامس: قال أبو إسحاق النحويون القدماء يقولون الهاء ها هنا مضمرة، والمعنى إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب {إن{ و{هذان{ خبر {إن{ و{ساحران{ يرفعها {هما{ المضمر (4) قوله تعالى{يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى{ هذا من قول فرعون للسحرة؛ أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه؛ كما قال فرعون قوله تعالى{فأجمعوا كيدكم{ الإجماع الإحكام والعزم على الشيء. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار {فأجمعوا{ إلا أبا عمرو فإنه قرأ {فاجمعوا{ بالوصل وفتح الميم. واحتج بقوله{فجمع كيده ثم أتى{. قال النحاس وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لأنه احتج بـ {جمع{ وقوله عز وجل{فجمع كيده{ قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده {فاجمعوا{ ويقرب أن يكون بعده {فأجمعوا{ أي اعزموا وجدوا؛ ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه يقال: أمر مجمع ومجمع عليه. قال النحاس: ويصحح قراءة أبي عمرو {فاجمعوا{ أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقاله أبو إسحاق. الثعلبي: القراءة بقطع الألف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، تقول: أجمعت الشيء جمعته بمعنى واحد، وفي الصحاح: وأجمعت الشيء جعلته جميعا؛ قال أبو ذؤيب يصف حمرا: أي مجموع. والثاني: أنه بمعنى العزم والإحكام؛ قال الشاعر: أي محكم. {ثم ائتوا صفا{ قال مقاتل والكلبي: جميعا. وقيل: صفوفا ليكون أشد لهيبتكم وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول أبي عبيدة؛ قال يقال: أتيت الصف يعني المصلى؛ فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وحكي عن بعض فصحاء العرب: ما قدرت أن آتي الصف؛ يعني المصلى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون؛ فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال. ولذلك لم يجمع. وقرئ {ثم ايتوا{ بكسر الميم وياء. ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا. {وقد أفلح اليوم من استعلى{ أي من غلب. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.
|